awscNote

تحقيق ما بات خيالاً: بروفيسور يعقوب حنا وفريقه ينجحون بإنماء أجنة فئران خارج الرحم للمرة الأولى

لا تزال مراحل تطور الجنين، البشري وغيره من الثدييات، سرٌّ غامض بروعته ودقة مراحله، إذ يَنتُج عن هذه المراحل كائنات مليئة بالتفاصيل؛ تتناغم أسسها وأجزاءها بسحر وانسجام؛ لا نعرف عنها وعن آلية عملها إلا القليل رغم التقدّم العلمي العظيم.
منذ مئة عام يحاول العلماء جاهدين في أنحاء العالم دراسة مراحل تطوير الجنين، لكن تتطلب دراسة المراحل المبكرة فهم شامل وعميق، طرق بارعة وبيئة مُهَنْدَسَة بشكل عبقري من أجل فك شفرة كثير من الآليات الأساسية لنمو الأجنّة خارج رحم الأم؛ موطنهم الطبيعي والوحيد حتى يومنا هذا.

من بين المختبرات التي تمركزت إهتماماتها حول هذا الموضوع هو مختبر بروفيسور يعقوب حنا وفريقه البحثي في معهد وايزمان. الفريق الذي كدّ وتعب ليعلن في الآونة الأخيرة عن نجاحه بإنماء أجنّة فئران خارج الرحم حتى المراحل المتقدمة ونمو الأعضاء بشكل كامل متكامل، ليكون هذا الإنجاز رائد بنجاحه ونتائجه عالميا حيث يتم ولأول مرة تنمية جنين لهذه الفترة الزمنية خارج رحم أمه.

فهذا فخر وإعتزاز ليس فقط على الصعيد العالمي بل وعلى الصعيد المحلي العربي؛ فهذه إنجازات وهذه شخصيات هي الوجه العربي الجميل والواعد الذي يعيد لمجد مسقط رأسه مجدا علميا وبصمة تاريخية تذكرنا بإبن سينا. وتسلط الأضواء على هذا المختبر من جميع أنحاء العالم، وخصوصا من جماهير وعلماء علم الوراثة، حيث تتم متابعة ومشاركة آخر مقالاته العلمية، التي نُشرت في مجلة Nature الشهيرة [1] حول هذا الموضوع، بشكل ملحوظ ومميّز.

 

تعتبر الطريقة التي ابتكروها أداة لا سابق لها لفهم عملية النمو المشفرة في الجينات، وقد توّفر نظرة تفصيلية مبهرة للعيوب الخلقية في الحمل الطبيعي وفي الحمل عن طريق الزراعة أيضا.
يشرح بروفيسور حنا، الذي يعمل في قسم علم الوراثة الجزيئية بالمعهد، أن الكثير مما هو معروف اليوم عن التطور الجنيني للثدييات يأتي إما من مراقبة نفس المراحل العملية في غير الثدييات مثل الضفادع أو الأسماك، أو عن طريق الحصول على صور من أجنة فئران تم تشريحها وجمعها معًا. ويضيف أن فكرة إنماء الأجنة خارج الرحم حتى المراحل المتقدمة كانت موجودة قديما، لكن التجارب القائمة على هذه المقترحات لم تحقق سوى نجاح محدود وكانت الأجنة تميل إلى أن تكون غير طبيعية.

قرّر فريق بروفيسور حنا تجديد الجهد وتطوير البحث في مختبره، والذي يركز على الطريقة التي يتم بها تفعيل مراحل التطور في الخلايا الجذعية الجنينية. على مدار سبع سنوات، من خلال العديد من التجارب والأخطاء، الضبط الدقيق والمراجعات العديدة، توصّل الفريق إلى عملية مكوّنة من خطوتين، نجحوا من خلالها إنماء أجنة فئران بشكل طبيعي لمدة 11 يوم – أي حوالي نصف عملية الحمل الكاملة للفئران (20 يوم). بهذا الوقت يتطور للأجنة مخطط جسم محدد جيدًا وأعضاء مرئية، بما فيها الدماغ والرئتين والجهاز الهضمي والكلى والأرجل والأعضاء التناسلية. هذا هو الجزء الأكثر غموضًا والأكثر إثارة للإهتمام في التطور الجنيني.

الخطوة الأولى من التجربة دامت مدتها يومين، فيها تم نقل الأجنة إلى حاضنة اصطناعية خارجية في مرحلة مبكرة جدا، حيث لم تتجاوز الأجنة 5 أيام من عمرها، وتكون بمثابة 250 خلية جذعية متطابقة بشكل كرة.
تحتوي الحاضنة الاصطناعية على نظام تهوية، فيها تطفو الأجنة في قنينة مملوءة بسائل خاص مفعم بالمغذيات. بهذه الخطوة استطاع الفريق تكرار المرحلة الأولى من التطور الجنيني حيث يتضاعف حجم الجنين لثلاثة أضعاف، ويتميز بثلاثة طبقات خلايا مختلفة: طبقة داخلية، وسطى وخارجية. بعد هذين اليومين، تدخل الأجنة في مرحلة النمو التالية، وهي تكوين أعضاء في كل طبقة، لذا كانت بحاجة إلى شروط إضافية.

في الخطوة الثانية، وضع علماء مختبر بروفيسور حنا الأجنة في محلول مغذّي بأكواب صغيرة، ووضعوا هذه الأكواب على بكرات تحافظ على السائل المغذّي في حالة حركة مستمرة. يبدو أن هذه الحركة المستمرة ساعدت في إبقاء الأجنة مغمورة بالمغذيات اللاّزمة.
بالإضافة إلى تنظيم العناصر الغذائية في الأكواب بعناية فائقة، لاحظ الفريق أيضا أن التّحكم بضغط الغازات كالأكسجين، وليس فقط الكميّات، كان عنصر أساسي في نجاح التّجارب. 

 

للتحقق مما إذا كانت عمليات النّمو طبيعية، أجرى الفريق مقارنات دقيقة مع الأجنّة التي تمّت إزالتها من فئران حوامل في فترات زمنية مشابهة، مما أظهر أن كلا المجموعتين متطابقتين من حيث فصل الطبقات الثلاث. إضافة الى ذلك، أدخلوا جينات الى داخل الأجنّة التي بدورها أضاءت أعضاء مختلفة بألوان فلورسنت، ما أظهر نتائج متوافقة مع التطور والنمو داخل الرحم.

أما بالنسبة للدماغ، فقد أظهروا أيضًا أنه بالإمكان إضافة أنواع معينة من الخلايا العصبية البشرية إلى الأجنة، تندمج جزئيًا في الدماغ النامي. يمكن استخدام كلتا الطريقتين للمساعدة في فهم كيفية حدوث التطور الطبيعي، وكيف يحدث الخطأ في بعض الأحيان. تتيح هذه التقنيات فتح أبوابًا جديدة من خلال إتاحة الوصول إلى تفاصيل في تطور الأجنة، ما يساعد بإجراء دراسات تفصيلية للعديد من جوانب تطوّرها.

في إحدى مقابلاته (2) علّق بروفيسور حنا قائلا: “إذا تم تزويد جنينًا بالشروط الصحيحة، فإن شفرته الجينية ستكون عبارة عن مجموعة من أحجار الدومينو، مرتّبة لتقع واحدة تلو الأخرى متى وقعت الأولى. كان هدفنا إعادة إنشاء هذه الظروف، والآن يمكننا مشاهدة هذا التسلسل، حيث يصل كل دومينو إلى المرحلة التالية في الصف”. 

من بين أمور أخرى، ستخفض هذه الطريقة التكاليف بل وتسرع عمليات البحث في مجال علم الأحياء التطوري ، فضلاً عن تقليل الحاجة إلى حيوانات المختبر. 
من بين أمور أخرى، يأمل الفريق أن تساعد طريقتهم المبتكرة بالإجابة على أسئلة عديدة، مثل سبب فشل العديد من حالات الحمل عن طريق الزرع، وكيف تتخصّص الخلايا الجذعية تدريجياً الى خلايا أخرى محددة العمل وما هي الظروف في فترة الحمل التي قد تؤدي لاحقًا إلى اضطرابات في النمو.

أخيرا، ليس من غير المعقول أن نمتلك القدرة على تطوير جنين بشري من الإخصاب إلى الولادة خارج الرحم بالكامل. بالطبع، مجرد اقتراح سيناريو الخيال العلمي الذي لربما شاهدناه في الأفلام أن يصبح حقيقة من شأنه أن يرعب الكثيرين ويثير الجدل بين الأطراف المدنية، الدينية والعلمانية. فمع افتراض إمكانية كهذه ما إذا كان ذلك مناسبًا أم لا، هو سؤال سيبحثه أيضا علماء الأخلاق والمنظمين.
لكن مازال الوقت مبكرًا، فالعلم والأبحاث مازالت بأوجها وما زالت هنالك أسئلة وغموض حول تطوّر الأجنة البشرية بالكامل خارج الرحم. وللعلم والأبحاث تتمة.

وما أنسب من ترككم/ن مع مقولة عالم الفيزياء ألبيرت أينشتاين: “الخيال أهم من المعرفة، فبينما المعرفة محدودة فإن الخيال لا حدود له. الخيال هو حافز كل تقدم، ومنشئ أي تطور.” فدون الخيال، لما أتت بنا العلماء بالمعرفة والتطوّر.

فما يدور بخيالك أيها القارئ/ة؟ وهل تعلم/ين إن كان عالمٍ في مختبر ما يعمل على تحقيق ذلك؟

نراكم/نّ مع إنجاز آخر،

جمعية نساء عربيات في مجالي العلوم والهندسة.

Development of a mouse embryo over a five-day period.

تطور جنين فأر على مدى خمسة أيام ائتمان [1] Aguilera-Castrejon et al.، Nature 2021

 

 

مصادر:

  1. https://www.nature.com/articles/s41586-021-03416-3
  2. https://wis-wander.weizmann.ac.il/life-sciences/advanced-mouse-embryos-grown-outside-uterus

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *