في حين تسابق رؤساء كبرى الدول بنشر الأعلام الوطنية والمصطلحات العسكرية، وتعريف التوصّل إلى تطعيم وعلاج لفيروس “كورونا” على أنه “واجب قومي”، ازداد الحديث عن “سباق عسكري بيوتكنولوجي”, وفي بعض الأحيان ولد نوعا من العنصرية والتفكير النمطي.
لم يرق للعلماء هذا التوجه، فقاموا بدورهم بالعمل بطريقة لم تحدث في تاريخ البحث العلمي، اذ في الوقت الذي قام فيه رؤساء الدول بإغلاق الحدود، سارع الباحثون بتحطيمها، مما أدى إلى خلق تعاون دولي لم يحدث مثله من قبل، بهدف حماية البشرية.
عادة، تكون هناك سرية شديدة بين الباحثين؛ نتائج أبحاثهم تعني تمويل، ترفيع أكاديمي وتثبيت، لهذا يحرصون على إخفاء معلوماتهم وعلى التشبث ببذور أفكارهم. لكن تخلى الباحثون هذه المرة عن فكرة السبق البحثي وتعاونوا للعمل سوية في الإبتكار، مشاركة التقنيات وتفضيل المهنية العلمية عن المصلحة الشخصية القومية. هذه الطريقة تسمى بالعلم المفتوح، تتيح فتح 3 أمور للجميع وبشكل مجاني والتي هي: بيانات، منشورات ومصادر تعليمية. لم تكن كل هذه المصادر متاحة للجميع قبل وجود فيروس كورونا، بل وغالبا ما تكون باهظة الثمن وصعبة المنال.
في حين أن جميع هذه التطورات إيجابية، من الجدير بالذكر ان استخدام هذه المصادر يجب أن يتم بشكل مسؤول من قبل الباحثين والجمهور. من المهم دائما التحقق من شروط الابحاث ومتابعتها بعناية عند استخدام بيانات الآخرين. متابعة مصادر مختلفة ومقارنتها تمكن القارئ من التأكد من صحة الأمور. على الأرجح اننا سمعنا بالدراسة التي تظهر تشابه في الحمض النووي لفيروس كورونا مع الحمض النووي لفيروس نقص المناعة البشرية HIV, منها ما يغذّي نظريات المؤامرة على ان الفيروس من صنع بشري. لقد تم نقد هذه الدراسة بشدة, بل وتم سحبها. بالرغم من ذلك فقد تصدرت هذه الدراسة المسحوبة قائمة الدراسات الاكثر مناقشة في العالم، في المصادر الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، وفقًا لموقع الترتيب الأكاديمي Altmetric. يصح القول ان العلم المفتوح أمر حيوي لمواجهة التحديات الكبيرة في العالم. ولكن عندما يتم إساءة استخدام المعلومات أو إساءة تفسيرها على المستوى العالمي بهذه السرعة، فإننا نحتاج أيضًا لعناية فائقة ومسؤولية بالتعامل معها.
على الصعيد المالي، تلقت أبحاث الكورونا مليارات الدولارات من الحكومات والمؤسسات المختلفة بل وحتى من المشاهير والافراد. لكن للأسف، ليس هذا هو الحال مع باقي مجالات العلوم, فقد فرض هذا الوباء التوقف الزمني نوعا ما لأي بحث علمي ليس له صلة بفيروس كورونا.
بموجب تعليمات الحجر الصحي، تم اغلاق العديد من المختبرات كتلك التي تساهم في فهمنا لعلم الاحياء، الامراض، التطور، الفضاء وغيرها من الأبحاث التي لا تحصى.
أحد أهم التحديات العلمية في عصرنا، على سبيل المثال, هو مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية, الذي يتسبب بمقتل 700 ألف شخص سنويا بحسب منظمة الصحة العالمية, وإن لم نتمكن من حل هذه الأزمة فقد يتسبب الأمر بموت 10 ملايين من الأشخاص لحد عام 2050. هناك حاجة ماسة لأدوية جديدة تُحارب هذا الوضع الخطير، ولكن الدراسات معلّقة لفترة لا نعرف مدتها. لذلك، من الجدير بالذكر ان التركيز على موضوع علمي واحد وتهميش آخر في هذه الفترة قد يؤثر سلبا على مجالات مختلفة في آن واحد.
مثال آخر هو الدراسات على فئران. هذه الدراسات تتطلب عدد كبير من الفئران في عمر معيّن ومن سلالة معينة مهندسة جينيا. إغلاق المختبرات يؤدي الى توقيف هذه الدراسات لأشهر او حتى سنوات، الأمر الذي يؤخر التوصل لنتائج جديدة ومشاركتها مع شركات صناعية. الأنتكاس في الأبحاث على الحيوانات له تأثيرات هائلة في قدرتنا على فهم وعلاج الأمراض البشرية. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون الاكتشافات التي يتم إجراؤها في النماذج الحيوانية بمثابة وقود لتطوير العقاقير.
إضافة الى ما ذكر حتى الآن، اعرب العديد من العلماء عن قلقهم تجاه الوضع الإقتصادي وتمويل البحث العلمي بعد انتهاء الوباء. في الوقت الذي يتم فيه إعادة تخصيص الواقع الاقتصادي لهذا الوباء وتمويل برامج إغاثة من أجل النهوض بالبلاد وتشغيلها مرة أخرى، ماذا سيكون حال تمويل البحث العلمي؟ .
تضاءُل التمويل المستقبلي في أعقاب الوباء، سيعيق تقدم دراسات جارية، ويصعّب بدء دراسات جديدة. في دول كاليابان، جنوب كوريا وألمانيا، كانت السيطرة على هذا الوباء ملفتة للأنظار، اذ تتصدر هذه الدول أعلى القائمة بالإنفاق على البحوث العلمية، بحسب آخر احصائيات نشرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO).
في النهاية، يشبه هذا الوباء كارثة طبيعية من نواحي كثيرة; بمجرد وقوعه، نحاول اتخاذ الاحتياطات والحفاظ على ما نستطيع, لكننا لن نعرف حجم الكارثة الا حتى يختفي غبارها. من بين الأمور التي سنأسف عليها كثيرا، قد نأسف أيضا على عرقلة التقدم العلمي.
الوباء الذي يعيشه العالم حاليا أثبت قطعا ان العلم ضرورة وليس كمالية. فهل يعيد الوباء الاعتبار الى البحث العلمي بوصفه أولوية تتقدم غيرها؟ هل تساهم الدول – نفسها التي حاربت مخصصات هذا القطاع وقلّصت ميزانيته – بإعادة العلم الى الواجهة؟ هل يربط فيروس كورونا بين البحث العلمي وبين المجتمع ليبني مجتمعات واعية وفعالة لتغيّر السياسة العامة؟
فإن غدا لناظره قريب. دمتم سالمين ودام علمنا نور.
- https://www.nytimes.com/2020/04/01/world/europe/coronavirus-science-research-cooperation.html
- https://www.altmetric.com/details/74957328/news
- https://www.who.int/antimicrobial-resistance/interagency-coordination-group/final-report/en/
- https://edition.cnn.com/2020/03/31/health/coronavirus-hinders-scientific-progress-scn/index.html